فصل: قال الثعالبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قلت: يحتمل أن الله أوحى إليه وأعلمه أن هناك بيتًا قد كان في سالف الزمان، وأنه سيعمر فلذلك قال عند بيتك المحرم، وقيل: يحتمل أن يكون المعنى عند بيتك الذي كان ثم رفع عند الطوفان وقيل: يحتمل أن يكون المعنى عند بيتك الذي جرى في سابق علمك أنه سيحدث في هذا المكان {ربنا ليقيموا الصلاة} اللام في ليقيموا متعلقة بأسكنت يعين أسكنت قومًا من ذريتي، وهم إسماعيل وأولاده بهذا الوادي الذي لا زرع فيه ليقيموا أي لأجل أن يقيموا أو ليكي يقيموا الصلاة {فاجعل أفئدة من الناس} قال البغوي جمع الموفد {تهوي إليهم} تحن وتشتاق إليهم.
قال السدي رحمه الله: أمل قلوبهم إلى هذا الموضع وقال ابن الجوزي أفئدة من الناس أي قلوب جماعة من الناس فلهذا جعله جمع فؤاد قال ابن الأنباري: وإنما عبر عن القلوب بالأفئدة لقرب القلب من الفؤاد فجعل القلب والفؤاد جارحتين.
وقال الجوهري: الفؤاد القلب والجمع أفئدة فجعلهما جارحة واحدة ولفظة من في قوله من الناس للتبعيض، قال مجاهد: لو قال أفئدة الناس لزاحمتكم فارس والروم والترك والهند.
وقال سعيد بن جبير: لحجت اليهود والنصارى والمجوس ولكنه قال أفئدة من الناس فهم المسلمون تهوي إليهم قال الأصمعي: يقال هوى يهوي هويًا إذا سقط من علو إلى أسفل وقال الفراء تهوي إليهم تريدهم كما تقول: رأيت فلانًا يهوي نحوك معناه يريدك وقال أيضًا تهوي تسرع إليهم، وقال ابن الأنباري: معناه تنحط إليهم وتنحدر وتنزل هذا قول أهل اللغة في هذا الحرف وأما أقوال المفسرين وقال ابن الأنباري: معناه تنحط إليهم وتنحدر وتنزل هذا قول أهل اللغة في هذا الحرف وأما أقوال المفسرين فقال ابن عباس: يريد تحن إليهم لزيارة بيتك وقال قتادة تسرع إليهم.
وفي هذا بيان أن حنين الناس إليهم، إنما هو لطلب حج البيت لا لأعيانهم، وفيه دعاء للمؤمنين بأن يرزقهم حج البيت ودعاء لسكان مكة من ذريته بأنهم ينتفعون بمن يأتي إليهم من الناس الزيارة البيت فقد جمع إبراهيم عليه السلام في هذا الدعاء من أمر الدين، والدنيا ما ظهر بيانه وعمت بركاته {وارزقهم من الثمرات} يعني كما رزقت سكان القرى ذوات الماء والزرع فيكو المراد عمارة قرى بقرب مكة لتحصل تلك الثمار، وقيل يحتمل أن يكون المراد جلب الثمرات إلى مكة بطريق النقل والتجارة فهو كقوله تعالى: {يجبى إليه ثمرات كل شيء}.
وقوله تعالى: {لعلهم يشكرون} يعني لعلهم يشكرون هذه النعم التي أنعمت بها عليهم، وقيل: معناه لعلهم يوحدونك ويعظمونك وفيه دليل على أن تحصيل منافع الدنيا، إنما هو ليستعان بها على أداء العبادات وإقامة الطاعات. اهـ.

.قال أبو حيان:

{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35)}.
جنب مخففًا، وأجنب رباعيًا لغة نجد، وجنب مشددًا لغة الحجاز، والمعنى: منع، وأصله من الجانب.
{وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبنيّ أن نعبد الأصنام رب إنهن أضللن كثيرًا من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم}: مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه تعالى لما ذكر التعجيب من الذين بدلوا نعمة الله كفرًا، وجعلوا لله أندادًا وهم قريش ومن تابعهم من العرب الذين اتخذوا آلهة من دون الله، وكان من نعم الله عليهم إسكانه إياهم حرمه، أردف ذلك بذكر أصلهم إبراهيم، وأنه صلوات الله عليه دعا الله تعالى أن يجعل مكة آمنة، ودعا بأنْ يجنب بنيه عبادة الأصنام، وأنه أسكنه وذريته في بيته ليعبدوه وحده بالعبادة التي هي أشرف العبادة وهي الصلاة، لينظروا في دين أبيهم، وأنه مخالف لما ارتكبوه من عبادة الأصنام، فيزدجروا ويرجعوا عنها.
وتقدم الكلام على قوله هنا {هذا البلد} معرفًا، وفي البقرة منكرًا.
وقال الزمخشري: هنا سأل في الأول أن يجعله من جملة البلاد التي يأمن أهلها ولا يخافون، وفي الثاني أن يخرجه من صفة كان عليها من الخوف إلى ضدها من الأمن، كأنه قال: هو بلد مخوف، فاجعله آمنًا انتهى.
ودعا إبراهيم أولًا بما هو على طاعة الله تعالى، وهو كون محل العابد أمنًا لا يخاف فيه، إذ يتمكن من عبادة الله تعالى، ثم دعا ثانيًا بأن يجنب هو وبنوه من عبادة الأصنام.
ومعنى {واجنبني وبني}: أدمني وإياهم على اجتناب عبادة الأصنام.
وأراد بقوله: {وبنىَّ} أولاده، من صلبه الأقرباء.
وأجابه الله تعالى فجعل الحرم آمنًا، ولم يعبد أحد من بنيه الأقرباء لصلبه صنمًا.
قال سفيان بن عيينة: وقد سئل، كيف عبدت العرب الأصنام؟ قال: ما عبد أحد من ولد إسماعيل صنمًا وكانوا ثمانية، إنما كانت لهم حجارة ينصبوها ويقولون: حجر، فحيث ما نصبوا حجرًا فهو بمعنى البيت، فكانوا يدورن بذلك الحجر ويسمونه الدوار انتهى.
قال ابن عطية: وهذا الدعاء من الخليل عليه السلام يقتضي إفراط خوفه على نفسه، ومن حصل في رتبته فكيف يخاف أن يعبد صنمًا؟ لكن هذه الآية ينبغي أن يقتدي بها في الخوف وطلب الخاتمة.
وكرر النداء استعطافًا لربه تعالى، وذكر سبب طلبه: أن يجنب هو وبنوه عبادة الأصنام بقوله: {إنهن أضللن كثيرًا من الناس}، إذ قد شاهد أباه وقومه يعبدون الأصنام.
ومعنى {أضللن}: كن سببًا لإضلال كثير من الناس، والمعنى: أنهم ضلوا بعبادتها، كما تقول: فتنتهم الدنيا أي: افتتنوا بها، واغتروا بسببها.
وقرأ الجحدري، وعيسى الثقفي: {وأجنبني} من أجنب، وأنث {الأصنام} لأنه جمع ما لا يعقل يخبر عنه أخبار المؤنث كما تقول: الأجذاع انكسرت.
والإخبار عنه أخبار جمع العاقل المذكر بالواو ومجاز نحو قوله: {فقد ضلوا كثيرًا}.
{فمن تبعني} أي: على ديني وما أنا عليه، فإنه مني.
جعله لفرط الاختصاص به وملابسته كقوله: «من غشنا فليس منا» أي ليس بعض المؤمنين تنبيهًا على تعظيم الغش بحيث هو يسلب الغاش الإيمان، والمعنى: أن الغش ليس من أوصاف أهل الإيمان.
{ومن عصاني}، هذا فيه طباق معنوي، لأن التبعية طاعة فقوله: {فإنك غفور رحيم}.
قال مقاتل: {ومن عصاني} فيحادون الشرك.
وقال الزمخشري: تغفر لي ما سلف من العصيان إذا بدا لي فيه واستحدث الطاعة.
قال ابن عطية: {ومن عصاني} ظاهره بالكفر لمعادلة قوله: {فمن تبعني فإنه مني}، وإذا كان كذلك فقوله: {فإنك غفور رحيم} معناه حين يؤمنوا، لأنه أراد أن الله يغفر لكل كافر، لكنه حمله على هذه العبارة ما كان يأخذ نفسه به من القول الجميل والنطق الحسن وجميل الأدب صلى الله عليه وسلم.
وكذلك قال نبي الله عيسى عليه السلام: {وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم}.
{رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ}.
الهوى: الهبوط بسرعة، قال الشاعر:
وإذا رميت به الفجاج رأيته ** تهوي مخارمها هوى الأجدل

{ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون}: كرر النداء رغبة في الإجابة وإظهارًا للتذلل، والالتجاء إلى الله تعالى.
وأتى بضمير جماعة المتكلمين، لأنه تقدم ذكره.
وذكر بنيه في قوله: {واجنبني وبنيَّ}، {ومن ذريتي} هو إسماعيل ومن ولد منه.
وذلك هاجر لما ولدت إسماعيل غارت منها سارة، فروى أنه ركب البراق هو وهاجر والطفل، فجاء في يوم واحد من الشام إلى مكة، فنزل وترك ابنه وأمته هنالك، وركب منصرفًا من يومه ذلك، وكان هذا كله بوحي من الله تعالى، فلما ولي دعا بما في ضمن هذه الآية.
وأما كيفية بقاء هاجر وما جرى لها ولاسماعيل هناك ففي كتاب البخاري والسير وغيره.
ومِن للتبعيض، لأنّ إسحاق كان في الشام، والوادي ما بين الجبلين، وليس من شرطه أن يكون فيه ماء، وإنما قال: {غير ذي زرع}، لأنه كان علم أن الله لا يضيع هاجر وابنها في ذلك الوادي، وأنه يرزقها الماء، وإنما نظر النظر البعيد فقال: {غير ذي زرع}، ولو لم يعلم ذلك من الله تعالى لقال: غير ذي ماء، على ما كانت عليه حال الوادي عند ذلك.
قال ابن عطية: وقد يقال إن انتفاء كونه ذا زرع مستلزم لانتفاء الماء الذي لا يمكن أن يوجد زرع إلا حيث وجد الماء، فنفى ما يتسبب عن الماء وهو الزرع لانتفاء سببه وهو الماء.
وقال الزمخشري: بواد هو وادي مكة، غير ذي زرع: لا يكون فيه شيء من زرع قط كقول: {قرآنًا عربيًا غير ذي عوج} بمعنى لا يوجد فيه اعوجاج، ما فيه إلا استقامة لا غير انتهى. واستعمل قط وهي ظرف لا يستعمل إلا مع الماضي معمولًا لقوله: لا يكون، وليس هو ماضيًا، وهو مكان أبدًا الذي يستعمل مع غير الماضي من المستقبلات.
والظاهر أن قوله: {عند بيتك المحرم}، يقتضي وجود البيت حالة الدعاء، وسبقه قبله وتقدم الكلام في البيت ومتى وضع في البقرة، وفي آل عمران.
ووصف بالمحرم لكونه حرم على الطوفان أي: منع منه، كما سمى بعتيق لأنه أعتق منه فلم يستول عليه، أو لكونه لم يزل عزيزًا ممنعًا من الجبابرة، أو لكونه محترمًا لا يحل انتهاكه. و{ليقيموا} متعلق بأسكنت. و{ربنا} دعاء معترض، والمعنى: إنه لا يخلو هذا البيت المعظم من العبادة. وقيل: هي لام الأمر، دعا لهم بإقامة الصلاة. وقال أبو الفرج بن الجوزي: اللام متعلقة بقوله: {واجنبني وبني أن نعبد الأصنام} ليقيموا الصلاة انتهى.
وهذا بعيد جدًا.
وخصّ الصلاة دون سائر العبادات لأنها أفضلها، أو لأنها سبب لكل خير.
وقوله: {ليقيموا} بضمير الجمع دلالة على أن الله أعلمه بأن هذا الطفل سيعقب هنالك، ويكون له نسل.
و{أفئدة}: جمع فؤاد وهي القلوب، سمي القلب فؤاد لإنفاده مأخوذ من فأد، ومنه المفتأد، وهو مستوقد النار حيث يشوى اللحم.
وقال مؤرج الافئدة: القطع من الناس بلغة قريش، وإليه ذهب ابن بحر.
قال مجاهد: لو قال ابراهيم عليه السلام: أفئدة الناس، لازدحمت على البيت فارس والروم.
وقال ابن جبير: لحجته اليهود والنصارى.
والظاهر أنّ من للتبعيض، إذ التقدير: أفئدة من الناس.
قال الزمخشري: ويجوز أن تكون مِن للابتداء كقولك: القلب مني سقيم يريد قلبي، فكأنه قيل: أفئدة ناس، وإنما نكر المضاف إليه في هذا التمثيل لتنكير أفئدة، لأنها في الآية نكرة لتتناول بعض الأفئدة انتهى.
ولا يظهر كونها لابتداء الغاية، لأنها ليس لنا فعل يبتدأ فيه لغاية ينتهي إليها، إذ لا يصح ابتداء جعل الأفئدة من الناس، وإنما الظاهر في من التبعيض.
وقرأ هشام: {أفئدة} بياء بعد الهمزة، نص عليه الحلواني عنه وخرج ذلك على الإشباع، ولما كان الإشباع لا يكون إلا في ضرورة الشعر حمل بعض العلماء هذه القراءة على أنّ هشامًا قرأ بتسهيل الهمزة كالياء، فعبر الراوي عنها بالياء، فظن من أخطأ فهمه أنها بياء بعد الهمزة، والمراد بياء عوضًا من الهمزة، قال: فيكون هذا التحريف من جنس التحريف المنسوب إلى من روى عن أبي عمرو: {بارئكم} و{يأمركم}، ونحوه بإسكان حركة لإعراب، وإنما كان ذلك اختلاسًا.
قال أبو عمرو والداني الحافظ: ما ذكره صاحب هذا القول لا يعتمد عليه، لأنّ النقلة عن هشام وأبي عمر وكانوا من أعلم الناس بالقراءة ووجوهها، وليس يفضي بهم الجهل إلى أن يعتقد فيهم مثل هذا وقرئ {آفدة}: على وزن فاعلة، فاحتمل أن يكون اسم فاعل للحذف من أفد أي دنا وقرب وعجل أي: جماعة آفدة، أو جماعات آفدة، وأن يكون جمع ذلك فؤاد، ويكون من باب القلب، وصار بالقلب أأفدة، فأبدلت الهمزة الساكنة ألفًا كما قالوا في ارآم أأرام، فوزنه أعفلة. وقرئ {أفدة} على وزن فعله، فاحتمل أن يكون جمع فؤاد وذلك بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى الساكن قبلها وهو الفاء، وإن كان تسهيلها بين بين هو الوجه، وأن يكون اسم فاعل من أفد كما تقول: فرح فهو فرح. وقرأت أم الهيثم: {أفودة} بالواو المكسورة بدل الهمزة. قال صاحب اللوامح: وهو جمع وفد، والقراءة حسنة: لكني لا أعرف هذه المرأة، بل ذكرها أبو حاتم انتهى.
أبدل الهمزة في فؤاد بعد الضمة كما أبدلت في جون، ثم جمع فأقرها في الجمع إقرارها في المفرد. أوهو جمع وفد كما قال صاحب اللوامح، وقلب إذ الأصل أوفده. وجمع فعل على أفعلة شاذ نحو: نجد وأنجدة، ووهى وأوهية. وأم الهيثم امرأة نقل عنها شيء من لغات العرب. وقرأ زيد بن علي: {إفادة} على وزن إشارة. ويظهر أن الهمزة بدل من الواو المكسورة كما قالوا: اشاح في وشاح، فالوزن فعالة أي: فاجعل ذوي وفادة. ويجوز أن يكون مصدر أفاد إفادة، أو ذوي إفادة، وهم الناس الذين يفيدون وينتفع بهم. وقرأ الجمهور: {تهوي إليهم} أي تسرع إليهم وتطير نحوهم شوقًا ونزاعًا، ولما ضمن تهوي معنى تميل عداه بإلى، وأصله أن يتعدى باللام.
قال الشاعر:
حتى إذا ما هوت كف الوليد بها ** طارت وفي كفه من ريشها تبك

ومثال ما في الآية قول الشاعر:
تهوى إلى مكة تبغي الهدى ** ما مؤمن الجن ككفارها

وقرأ مسلمة بن عبد الله: {تهوي} بضم التاء مبنيًا للمفعول من أهوى المنقولة بهمزة التعدية من هوى اللازمة، كأنه قيل: يسرع بها إليهم.
وقرأ علي بن أبي طالب، وزيد بن علي، ومحمد بن علي، وجعفر بن محمد، ومجاهد: {تهوى} مضارع هوى بمعنى أحب، ولما ضمن معنى النزوع والميل عدى بإلى.
{وارزقهم من الثمرات} مع سكناهم واديًا ما فيه شيء منها بأن يجلب إليهم من البلاد كقوله: {يجبى إليه ثمرات كل شيء} وروي عن مسلم بن محمد الطائفي أنه لما دعا عليه السلام بأن يرزق سكان مكة الثمرات، بعث الله جبريل عليه السلام فاقتلع بجناحه قطعه من فلسطين. وقيل: من الأردن فجاء بها، وطاف بها حول البيت سبعًا، ووضعها قريب مكة فهي الطائف. وبهذه القصة سميت وهي موضع ثقيف، وبها أشجار وثمرات. وروي نحو منه عن ابن عباس.
{لعلهم يشكرون} قال الزمخشري النعمة في أن يرزقوا أنواع الثمرات حاضرة في واد بباب ليس فيه نجم ولا شجر ولا ماء، لا جرم أنّ الله عز وجل أجاب دعوة إبراهيم فجعله حرمًا آمنًا يجبي إليه ثمرات كل شيء رزقًا من لدنا، ثم فضله في وجود أصناف الثمار فيه على كل ريف، وعلى أخصب البلاد وأكثرها ثمارًا، وفي أي بلد من بلاد الشرق والغرب ترى الأعجوبة التي يريكها الله.
{بواد غير ذي زرع} وهي: اجتماع البواكير والفواكه المختلفة الأزمان من الربيعية والصيفية والخريفية في يوم واحد، وليس ذلك من آياته بعجيب. اهـ.

.قال الثعالبي:

قوله سبحانه: {وَإِذْ قَالَ إبراهيم رَبِّ اجعل هذا البلد آمِنًا} تقدَّم تفسيره.
وقوله: {واجنبني وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام}: و{واجنبني}: معناه: امنعني، يقال: جَنَبَهُ كَذَا، وأَجْنَبَهُ؛ إِذا مَنَعَهُ من الأمْر وحَمَاهُ منْه.
* ت *: وكذا قال * ص *: و{اجنبني}: معناه: امنعني، أصله من الجَانِبِ، وعبارةُ المَهْدَوِيِّ: أي: اجعلني جانبًا من عبادتها.
وقال الثعلبيُّ: {واجنبني}، أي: بعّدني واجعلني منْها على جانِبٍ بعيدٍ. انتهى، وهذه الألفاظ كلُّها متقاربة المعاني، وأراد إبراهيم عليه السلام بَنِيَّ صُلْبه، وأما باقي نَسْله، فمنهم مَنْ عبد الأصنام، وهذا الدعاء من الخليل عليه السلام يقتضي إِفراطَ خَوْفه علَى نفسه ومَنْ حصل في رتبته، فكيف يَخَافُ أنْ يعبد صَنَمًا، لكن هذه الآية ينبغي أنْ يُقْتَدَى بها في الخَوْفِ، وطَلَبِ حُسْنِ الخاتمة، و{الأصنام}: هي المنحوتةُ على خَلْقَة البَشَر، وما كان منحوتًا على غَيْرِ خلْقَة البَشَرِ، فهي أوثانٌ، قاله الطبريُّ عن مجاهد، ونسب إِلى الأصنام أنها أضَلَّتْ كثيرًا من الناس تجوُّزًا، وحقيقةُ الإِضلال إِنما هي لمخترعها سبحانه، وقيل: أراد ب {الأصنام} هنا: الدنانيرُ والدَّرَاهم.
وقوله: {وَمَنْ عَصَانِي}: ظاهره بالكُفْر؛ لمعادلة قوله: {فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي}، وإِذا كان ذلك كذلك، فقوله: {فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}: معناه: بتوبَتِكَ على الكَفَرَةِ؛ حتى يؤمنوا لا أنَّه أراد أنَّ اللَّه يغفر لكَافِرٍ، وحمله على هذه العبارة ما كَانَ يأخذ نَفْسَهُ به من القَوْلِ الجميلِ، والنُّطْقِ الحسنِ، وجميلِ الأَدَبِ صلى الله عليه وسلم، قال قتادة: اسمعوا قوْلَ الخليلِ صلى الله عليه وسلم: واللَّه ما كانُوا طَعَّانين ولا لَعَّانِينِ، وكذلك قولُ نبيِّ اللَّه عيسى عليه السلام: {وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} [المائدة: 118]، وأسند الطبريُّ عن عبد اللَّهِ بْن عَمْرٍو حديثًا: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم، تلا هاتَيْنِ الآيَتَيْنِ، ثم دعا لأمته فبَشَّرَ فيهم، وكان إِبراهيمُ التَّيْمِيُّ يقول: مَنْ يأمن على نفْسه بَعْدَ خوف إِبراهيمَ الخليل على نَفْسِهِ مِنْ عبادة الأصْنام.
وقوله: {ومِن ذُرِّيَّتِي}: يريد: إِسماعيل عليه السلام، وذلك أَنَّ سارَّة لمَّا غارَتْ بهاجَرَ بَعْدَ أَنْ ولدَتْ إِسماعيل، تشوَّش قلبُ إِبراهيم مِنْهُما، فروي أنَّه رَكِبَ البُرَاقَ هو وهَاجَر، والطفلُ، فجاء في يَوْمٍ واحدٍ من الشامِ إِلى بَطْنِ مَكَّة، فتركَهُما هناك، ورَكِبَ منصرفًا من يومه ذلك، وكان ذلك كلُّه بوحْيٍ من اللَّه تعالى، فلمَّا ولى، دعا بمضمَّن هذه الآية، وأمَّا كيفيَّة بقاء هَاجَرَ، وما صَنَعَتْ، وسائرُ خَبَر إِسماعيل، ففي كتابِ البخاريِّ وغيره، وفي السير، ذُكِرَ ذلك كلُّه مستَوْعَبًا.
* ت *: وفي صحيح البخاري من حديثه الطويل في قصَّة إِبراهِيمَ مع هَاجَرَ وولدِهَا، لما حَمَلَهُما إِلى مكَّة، قال: ولَيْسَ بمكَّة يَومَئِذٍ أَحَدٌ، وليس فيها ماءٌ، فوضعهما هنالِكَ، ووضَعَ عندهما جرابًا فيه تمْر، وسقاءً فيه ماءٌ، ثم قَفَّى إِبراهيم منطلقًا، فتبعْتهُ أمُّ إِسماعيل، فقالَتْ: يا إِبراهيم، أيْنَ تَذْهَبُ، وتَتْرُكُنَا بهذا الوادِي الذي لَيْسَ فيهِ أَنِيسٌ، ولا شَيْء، فقالَتْ له ذلك مِرَارًا، وجَعَلَ لاَ يَلْتَفِتُ إِليها، فقالَتْ لَهُ: آللَّه أمَرَكَ بهذا؟ قال: نعمْ، قالتْ: إِذَنْ لاَ يُضَيِّعُنَا، ثم رَجَعَتْ، فانطلق إِبراهيمُ حتى إِذا كان عند الثَّنِيَّةِ حَيْثُ لاَ يَرَوْنَهُ، استقبل بوجهه الْبَيْتَ، ثم دعا بهؤلاءِ الدعَواتِ، وَرَفَعَ يَدَيْهِ، فقال: «رَبِّ {إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المحرم}، حتى بَلَغَ: {يَشْكُرُونَ}...» الحديثَ بطوله وفي الطريقٍ: «قالَتْ: يا إِبراهيم إِلى مَنْ تَتْرُكُنَا؟ قال: إِلى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، قَالَتْ: رَضِيتُ». انتهى. وفي هذا الحديثِ مِنَ الفوائِدِ لأرباب القلوبِ والمتوكِّلين وأهْلِ الثقة باللَّه سُبْحَانه ما يَطُولُ بنا سرْدُهَا، فإِليك استخراجها، ولما انقطعَتْ هاجَرُ وابنها إِلى اللَّه تعالى، آواهما اللَّه، وأنْبَعَ لهما ماءَ زَمْزَمَ المبارَكَ الذي جَعَله غذاءً، قال ابنُ العربي: وقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ لَهُ». قال ابن العربيِّ: ولقد كُنْتُ مقيمًا بمكَّة سنَةَ سَبْعٍ وثمانينَ وأربعمائة، وكنتُ أَشْرَبُ مَاءَ زَمْزَمَ كثيرًا، وكلَّما شرِبْتُ، نَوَيْتُ بِهِ العِلْمَ والإِيمانَ، ونَسِيتُ أنْ أشربه للعَمَلِ، ففتح لي في العِلْمِ، ويا لَيْتَنِي شربْتُه لهما معًا؛ حتى يُفْتَحَ لي فيهما، ولم يُقَدَّر، فكان صَغْوِي إِلى العلْمِ أَكْثَرَ منه إِلى العمل، انتهى من الأحكام.
* و{من}؛ في قوله: {ومِن ذُرِّيَّتِي}؛ للتبعيضِ؛ لأن إِسحاق كان بالشَّام، والوادِي: ما بين الجبَلَيْن، وليس مِنْ شرطه أَنْ يكون فيه ماءٌ، وجَمْعُه الضميرَ في قوله: {لِيُقِيمُواْ}: يدلُّ على أن اللَّه قد أعلمه أنَّ ذلك الطِّفْلَ سَيُعْقِبُ هناك، ويكونُ له نسلٌ، واللام في {لِيُقِيمُواْ}: لامُ كي؛ هذا هو الظاهر، ويصحُّ أَنْ تكون لام الأمر؛ كأنه رَغِبَ إِلى اللَّه سبحانه أَنْ يوفِّقهم لإِقامة الصلاة، والأفئدة القلوبُ جمْع فؤادٍ، سمِّي بذلك، لاتِّقَادِهِ، مأخوذ من فَأَد، ومنه: المُفْتَأَدُ، وهو مستوقَدُ النَّار حيث يُشْوَى اللحْمُ.
وقوله: {مِّنَ الناس}: تبعيضٌ، ومراده المؤمنون، وباقي الآية بيِّن. اهـ.